نداء: إلى المثقف الفلسطيني والعربي في زمن الاشتباك
بقلم: نصار إبراهيم
“… ما أعرفه أن الوطن فكرة اشتباك، وفي زمن الاشتباك ليس عندي ما أساوم عليه. لم يبق شيء سوى الفكرة بالأسود والأبيض. هكذا تكون أوضح. فالأسود فالق بين خندقين. خندق معي وخندق عليّ، وأنا لا أجيد الرقص في المساحات الملتبسة أو بين الخنادق المتقابلة. إنها فكرة الاشتباك هكذا، وفي زمن الاشتباك لا أريد أن أضيع في زحمة الألوان المخادعة، إنهم يحاولون احتلال وعي الطفل عندي بلعبة خداع البصر كي ألوِّن الخيمة لتبدو أجمل، لكنها تبقى خيمة. فالمساحة بين فلسطين ونقيضها ليست للوقوف أو التفكير أو الإقامة، إنها ليست حقلا لزراعة الوهم، كيف أقول، إنها… إنها مساحة اشتباك وحب من المسافة صفر….. (رواية “حنظلة الراكض على حافة البحر” – ص 86 – إصدار دار خطوط وظلال – عمّان- الأردن Dar Khtot).
هو ذا شعب فلسطين ينهض كالعنقاء على امتداد الجغرافية الفلسطينية، يكنس الحدود الوهمية، يكنس ثقافة التدجين والاستلاب والرضوخ. ينهض رغم القهر والقتل والدمار والاعتقال والحصار والتشويه والتطبيع على مدار عقود طويلة، ينهض ليقاوم بكل ما يستطيع سياسات التقسيم والتطبيع وثقافة الهزيمة والاستسلام والمساومات البائسة وتغييب الوعي، فيعيد تصويب البوصلة نحو وجهتها الطبيعية. يعيد بمقاومته العنيدة صياغة المعادلات الساطعة، حيث تتقاطع في هذه اللحظة الباسلة ذاكرة أجيال وأرض ومدن وقرى ومخيمات لتصنع ملحمة الجرأة والحق الذي لن ينسى ولن يضيع. أمام هذا النهوض الباسل لشعب فلسطين من أقصاه إلى أقصاه تنهار منظومات التزوير والتشويه التي عملت عليها الآلة الصهيونية والإمبريالية والرجعية العربية المتهافتة عقودا طويلة، وهي تحاول أن تقنعنا بأن ما هو قائم قدر لا يرد. ثم فجأة تنهض فلسطين بروحها وعنفوانها لتضع الجميع أمام حقائقها الأزلية.
إنه زمن الاشتباك الشامل الذي يغطي مساحة فلسطين والوطن العربي بكامله
في زمن الاشتباك هذا نتساءل عن آلاف الأسماء المثقلة بالألقاب: البروفيسور، العالم، الدكتور، رئيس كرسي كذا.. وكذا… المفكر، الفيلسوف، المنظِّر، الكاتب، المبدع، العبقري، الجهبذ، نتذكر ونتذكر… ثم يدوي السؤال: اين كل هؤلاء!؟
فإذا لم يكن دورهم الآن، حيث الاشتباك الضاري على مساحة الوعي والعقل العربي في مواجهة ثقافة التطبيع، الهزيمة، الاستسلام، التشويه، التجهيل والتدمير والتكفير والتمزيق والتقسيم والاستلاب والخضوع ومحاولات احتلال الوعي فمتى سيكون دورهم!؟
إذا لم ينهض المثقف والمفكر الفلسطيني والعربي الآن لحماية وحراسة الوعي الجمعي وتحصينه، إذا لم ينهض كل هؤلاء الآن ويخوضوا الاشتباك ضد القوى التي تستهدف، وبلا رحمة، تاريخ وحضارة وهوية فلسطين ووعي وذاكرة الإنسان العربي، فمتى سيأتي دورهم يا ترى!؟
الآن زمن الاشتباك. الآن نحن بحاجة لذلك المثقف الذي كنا نحترمه ونستمع إليه ونخدره كالقرش الأبيض لمثل هذا اليوم، فإذا لم نجده الآن في دائرة الاشتباك الثقافي الممتدة على مساحة الوعي العربي كله فلأي شيء إذن نريده بعد ذلك!؟
الآن زمن الاشتباك، حيث تتعرض الأوطان والإنسان للقهر والتدمير من قبل قوى الاستعمار والاحتلال وقوى الظلام والجهل والأنانية القاتلة الطائفية أو القطرية أو الجهوية، أو غير ذلك. الآن حيث يدور الصراع على الوعي والذاكرة والفكرة والأمل والحق والثقة بالنصر، الآن حيث تزج قوى القهر والاستعباد والعنصرية بكل طاقتها لإحباط أي محاولة للتحرر والتمسك بالهوية الوطنية والقومية الجامعة. الآن ننتظر ونبحث عن المثقف الحقيقي الذي يجب أن يلازم متراس المجابهة بكل وضوح، يحشد، يدافع، يقاوم، يزرع الأمل، يعمق الوعي ويفجر عنفوان أرواحنا.
فإذا لم نجد ذلك المثقف الآن، أي في زمن الاشتباك هذا، وفي دائرة الاشتباك هذه فمتى سنجده!؟
الآن في زمن الاشتباك المباشر والممتد والشامل كل الأسماء والألقاب لم ولن ولا تعني شيئا إذا لم ينهض أصحابها ليعطوا لألقابهم الفخمة تلك قيمة ومعنى حقيقيا في الوطنية والتحرر والكرامة.
في زمن الاشتباك، حيث رحى المواجهة يدور بكامل قوته، سيهز غربال الاشتباك الواقع بصورة عاصفة، سيفرز الغث من السمين، وسيفرز المثقف الحقيقي من الوهمي، سيفرز المثقف الجريء الشجاع من المثقف الهش والملتبس، حينها لن يحمي أي مثقف لقبه مهما كان برّاقا إذا لم يبرر ذاته ويبرهن على ذلك في لهيب المواجهة الثقافية الدائرة، وسينكشف على انه مجرد قطعة حلوى رخيصة مغلفة بورق تافه ملون لا أكثر.
هذا التحدي الثقافي يواجه اليوم مجمل المثقفين العرب والفلسطينيين، الذين عليهم أن يعيدوا النظر في دورهم ووظيفتهم العميقة، ومغادرة مصيدة “الفكر اليومي” وفق تعبير مهدي عامل، ذلك “لأن الفن الرديء الذي يروّج له الصغار في حياتنا الآن، تحت أي شعار كان، لا يقلّ ضرراً عن السلاح الرديء” كما يقول محمود درويش.
ثم: “……قال الولد: فلسطينُ تعيدني لأوّل الرِّواية، تقول لي أيها الرّاكض منذ يوم ولادته اقرأ أسطورة خلقي الأوّل، أعد ضبط الوعي وردِّ الفعل وفق مواقيت حضوري المنقوش على صدر البحر وقلب الشّام وما بين النّهرين ووادي النّيل وصنعاء وأبعد، ولا تنس أقدار التّكوين ومعادلة الرّوح الحارسة، وأن ليس هناك قلمٌ يستطيع أن يخطَّ على الورق التّافه حدودا تلغي حدودي، حتى لو قالت كل خرائط هذي الدّنيا غير ذلك(…) فأنا لا أعرض زيتوني البهيّ على بسطات العابرين، لا بالجملة ولا بالمفرّق. لا تنس هذا، وإلا لن تكون ولدي حتى لو انفجر قلبك ألف شظية. تذكّر هذا تعرف دربك….” (“حنظلة الرّاكض على حافة البحر”- ص119).